الجنديّ الكنوه
في غابر العصور، استعرت نار الحرب بين الشعبين، الأسوجيّ والدانمركيّ ونشبت معركة شديدة اللظى، التحم فيها الجيشان المتحاربان وسالت الدماء غزيرة، وأسفر العراك في النهاية عن اندحار الأسوجيين وهربهم، إلّا أنّه بقي في ساحة الوغى عدد غير قليل من الفريقين بين قتلى وجرحى.
وكان بين هؤلاء دانمركيّ ملقى على الأرض وقد أصيب بجراح خفيفة غير مميتة، وبجانبه قربة ماء صغيرة، ولمّا اشتدّ عليه العطش تناولها ليروي غليله، ولم يكد يضعها على شفتيه حتّى سمع صوتًا ملؤه الاسترحام يقول:
- يا سيّدي اسقني شربة ماء لأنّي على وشك أن ألفظ نفسي الأخير!
وكان صوت الاستغاثة هذا صادر من أعماق صدر جريح آسوجيّ مرميّ في مكان ليس بعيدًا عن عدوّه، فحرّكت هذه الاستغاثة قلب الآسوجيّ الشفوق، ولم يتوانَ عن الاقتراب من المستغيث، وركع بجانبه وهو العدوّ المضرّج بدمائه وأحنى القربة أي المطرة إلى شفتيه ليسقيه ويطفىء عطشه وقال له:
- اشرب قبلي وارتوِ فإنّ حاجتك إلى الماء تفوق احتياجي إليه.
ولم ينبس بهذه الكلمات إلّا بشقّ النفس والجهد الجهيد؛ ولكن قبل أن يتمّ عمله الإنسانيّ انتفض الجنديّ الأسوجيّ ونهض قليلًا متّكئًا على كوعه، وتناول غدّارة من جيبه وصوّبها نحو عدوّه المحسن الذي تودّد إليه وأراد كسب صداقته، ثمّ أطلقها فأصاب رصاصها كتفه، إنّما لحسن الجدّ لم ينله خطر من جرّاء هذا العمل القبيح، عندئذ صاح الجنديّ المستعان به في وجه المحسن إليه:
- آه أيّها الخائن الجبان أردت أن أنقذك وأتّخذ منك صديقًا لي بالإحسان إليك، وها أنت تكافئني، فتدفع ثمن عملي الإنسانيّ رصاصة من فم غدّارتك لتقتلني! لذا تراني مضطّرًا إلى مجازاتك على صنيعك السيّء؛ كنت مزمعًا أن أسقيك ماء قربتي كلّه، أمّا الآن فلن أسقيك سوى نصفه؛ وردّ القربة إلى فمه فشرب نصف ما فيها وأعطى الأسوجيّ النصف الآخر.
بلغ ذلك الخبر مسمع الملك الدانمركيّ فبعث برسول إلى الجنديّ يطلبه فأتى وقصّ عليه حقيقة الواقع. فسأله الملك قائلًا:
- ولماذا وفّرت حياة هذا الأسوجيّ الغدّار بعد أن سعى ليفتك بك ويقتلك؟
فأجاب الجنديّ:
- يا سيّدي إنّي عاجز لا أجرؤ على اقتراف عمل كهذا، ويدي لا تطاوعني في الإجهاز على عدوّ جريح!
فقال الملك:
- إنّك جدير بالنبل. وقلّده وسام الأبطال ومنحه لقب الأشراف النبلاء مكافأة له على صنيعه المجيد.
ترجمة يوسف س. نويهض